الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف، كما ذكره في هذه الآية. المسألة الثانية: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة. المسألة الثالثة: ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات: الصفة الأولى: كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال:أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] والأمر في مكة كان كذلك، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض. أما أهل مكة، فإنهم كانوا أهل حرم الله، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم. واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها، كما يقال: طيب وحار وبارد. والصفة الثانية: قوله: { مُّطْمَئِنَّةً } قال الواحدي: معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. أقول: إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف، فهذا هو معنى كونها آمنة، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق، فهذا هو معنى قوله: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ } وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار. والجواب: أن العقلاء قالوا:
ثلاثة ليس لها نهاية   الأمن والصحة والكفاية
قوله: { ءَامِنَةً } إشارة إلى الأمن، وقوله: { مُّطْمَئِنَّةً } إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه، وقوله: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ } إشارة إلى الكفاية. قال المفسرون وقوله: { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله:فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ } [إبراهيم: 37] ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال: وهو أن الأنعم جمع قلة، فكان المعنى: أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله، وكان اللائق أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب، فما السبب في ذكر جمع القلة؟ والجواب: المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاء.

السابقالتالي
2