الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } * { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } * { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته. فالشبهة الأولى: أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات: الأول: أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله:وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ } [القلم: 51، 52] وأيضاً قوله:أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } [الأعراف: 184]. والثاني: أنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى، فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله: { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } في هذه الآية يحتمل الوجهين. أما قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ففيه وجهان: الأول: أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون:إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] وكما قال قوم شعيب:إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } [هود: 87] وكما قال تعالى:فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ } في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه. ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم: { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلَـئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المراد لو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعاً، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي، ويكون في محل الشكوك والشبهات، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعاً، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات، فلو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء، فهذا تقرير هذه الشبهة، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام:وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ ٱلأَمْرُ } [الأنعام: 8] وفيه احتمال آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له: { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلَـئِكَةِ } الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود، وهذا هو المراد بقوله تعالى:وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ ٱلْعَذَابُ } [العنكبوت: 53] ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } فنقول: إن كان المراد من قولهم: { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلَـئِكَةِ } هو الوجه الأول، كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم، وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً، ولا يكون حقاً، فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى، وقال المفسرون: المراد بالحق ههنا الموت، والمعنى: أنهم لا ينزلون إلا بالموت، وإلا بعذاب الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وأما إن كان المراد من قوله تعالى: { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلَـئِكَةِ } استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به، فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال، وحكمنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نفعل بهم ذلك، وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين.

السابقالتالي
2 3 4