اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ما تفسير كونه بشراً. فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر، والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالاً من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره. وأما قوله: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } ففيه قولان: الأول: فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية. والثاني: فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى:{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان: 2]. وأما قوله: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } ففيه مباحث: الأول: أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح، وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى:{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي } [الإسراء: 85] وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً. وقوله: { فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } فيه مباحث: أحدها: أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود، وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة البقرة. وثانيها: أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض، من الناس من لا يجوز أن يقال: إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام، والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة الأَعراف في صفة الملائكة:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف:206] فقوله: { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } يفيد الحصر، وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال: إن قوله تعالى: { فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } يفيد العموم، إلا أن الخاص مقدم على العام. وثالثها: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له، لأن قوله: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله: { فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } قال الخليل وسيبويه قوله: { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم، فلما قال: { كُلُّهُمْ } زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال: { أَجْمَعُونَ } ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال: وقول الخليل وسيبويه أجود، لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله: { إِلاَّ إِبْلِيسَ } أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا؟ وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله: { أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } استئناف وتقديره أن قائلاً قال: هلا سجد فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه.