الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } * { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } * { إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، ومنها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ } قال الليث: البرج واحد من بروج الفلك، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً، ونظيره قوله تعالى:تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً } [الفرقان: 61] وقال:وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج: 1] ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة، وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، وهو المطلوب، وأما قوله: { وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ * وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى:وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ } [الملك: 5] فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله: { وَزَيَّنَّـٰهَا } أي بالشمس والقمر والنجوم { لِلنَّـٰظِرِينَ } أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله: { وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ }. فإن قيل: ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه. قلنا: لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول: معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة، والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله: { لأَرْجُمَنَّكَ } أي لأسبنك، والرجم اسم لكل ما يرمى به، ومنه قوله:وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ } [الملك: 5] أي مرامي لهم، والرجم القول بالظن، ومنه قوله:رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } [الكهف: 22] لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد، وقوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب.

السابقالتالي
2