الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ }

اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا: إنك لمجنون، فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت. ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. وقوله: { فِى شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ } أي في أمم الأولين وأتباعهم. قال الفراء: الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة سموا بذلك، لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله:أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [الأنعام: 65] قال الفراء: وقوله: { فِى شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ } من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله:حَق ٱلْيَقِينِ } [الواقعة:95] وقوله:بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيّ } [القصص: 44] وقوله:وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ } [البينة: 5] أما قوله: { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور. الأول: أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات. والثاني: أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة، وذلك شاق شديد على الطباع. والثالث: أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة. والرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة. والخامس: خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصلي فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة. أما قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } ففيه مسألتان: المسألة الأولى: السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله:مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } [المدثر: 42] أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلكته وأسلكته بمعنى واحد. المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار، فقالوا: قوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين، قالت المعتزلة: لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال: إنه تعالى قال: { وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وقوله: { يَسْتَهْزِئُونَ } يدل على الاستهزاء، فالضمير في قوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال، فثبت صحة قولنا المراد من قوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين، لأنا نقول: إن كان الضمير في قوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء، وذلك يوجب التناقض، لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمناً بكفره، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به، وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول: التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ } وقال بعده: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً، فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان: الأول: أن الضمير في قوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد.

السابقالتالي
2 3 4