الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } * { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }

اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة، وما يدل على صفة يوم القيامة، أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام، أو كان راضياً بذلك الظلم، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم. فإن قيل: كيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة؟ والجواب من وجوه: الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً، كقوله:وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14].وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ } [القصص: 88] وكقوله: { يا أيها الذين آمنوا }. والثاني: أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً. والثالث: أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. الرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة، وعن سفيان بن عيينة: أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات. الصفة الأولى: أنه تشخص فيه الأبصار. يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة. والصفة الثانية: قوله: { مُهْطِعِينَ } وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة: القول الأول: قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه، فالمعنى: أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين، أي مسرعين نحو ذلك البلاء. القول الثاني: في الإهطاع قال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع. والقول الثالث: المهطع الساكت. والقول الرابع: قال الليث: يقال للرجل إذا قر وذل أهطع. الصفة الثالثة: قوله: { مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ } والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله: { مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ } أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.

السابقالتالي
2