الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور: الأول: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته. الثاني: أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، الثالث: أنه ذكر في أول السورةنَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] ثم ذكر في آخرها: { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة. والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال: المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام. فإن قيل: لم قال: { عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك. قلنا: إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل، أو نقول: المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها، لأن { أُوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه، واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات. الصفة الأولى: كونها { عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ } وقد سبق تقريره. الصفة الثانية: قوله: { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ } وفيه قولان: الأول: أن المراد الذي جاء به وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت، والثاني: أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه، لأنه لا يصح الكذب منه، ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال: { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية، ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى:مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 40] قاله الفراء والزجاج، ثم قال: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.

السابقالتالي
2