الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ }

{ إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ } في الآية لطائف: إحداها: أنه تعالى لما وعد محمداً بالتربية العظيمة بقوله:وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى:5] وقوله:إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } [الكوثر:1] لا جرم كان يزداد كل يوم أمره، كأنه تعالى قال: يا محمد لم يضيق قلبك، ألست حين لم تكن مبعوثاً لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل، وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصراً لك بذاتي: { إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ } فقال: إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال: { وَٱلْفَتْحُ } فقال: إلهي لكن القوم إذا خرجوا، فأي لذة في ذلك فقال: { وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوٰجاً } ثم كأنه قال: هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة:يأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون: 1] يشتمل على أمور ثلاثة أولها: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه: { إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ } وثانيها: فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله، { والفتح } والثالث: أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضاً أدخلت عبادي في طاعتك، وهو المراد من قوله: { يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوٰجاً } ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا، إن نصرتك فسبح، وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا فاستغفر، وإنما وضع في مقابلة: نصر الله تسبيحه، لأن التسبيح هو تنزيه الله عن مشابهة المحدثات، يعني تشاهد أنه نصرك، فإياك أن تظن أنه إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النصر، بل اعتقد كونه منزهاً عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئاً، ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد، ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله:وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } [محمد: 19] أي كثرة الأتباع مما يشغل القلب بلذة الجاه والقبول، فاستغفر لهذا القدر من ذنبك، واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني: أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله: { يا أيها ٱلْكَـٰفِرُونَ } كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } فقيل: يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك: { إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ } نظيره: «زويت لي الأرض» يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، فإن سئمت المقام وأردت الرحلة، فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين:

السابقالتالي
2 3 4 5 6