الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } * { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } * { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

اعلم أن هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة. واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام، ثم صار اسماً للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل. واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد، فلهذا قال شعيب عليه السلام: { مَالَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان، دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } والنقص فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره. والآخر: أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير. ثم قال: { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } وفيه وجهان: الأول: أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال: اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة. والثاني: أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف. ثم قال: { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } وفيه أبحاث: البحث الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون: بل المراد هو الخوف، لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لا العلم. البحث الثاني: أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله:هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } [هود: 77]. البحث الثالث: اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم: هو عذاب يوم القيامة، لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين، وقال بعضهم: بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة وقال بعضهم: بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله:وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف: 42] ثم قال: { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ }. فإن قيل: وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } ثم قال: { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } وهذا عين الأول. ثم قال: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: إن فيه وجوهاً: الوجه الأول: أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد، والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.

السابقالتالي
2 3