الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } * { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة. وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين: الأول: أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء، وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار. والثاني: أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، فقالوا: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال: { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه، أي لا يمنعه منه، والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه، فقوله: { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده، فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم، وقد قيل معناه: وما أنتم بمانعين، وقيل: وما أنتم بمصونين، وقيل: وما أنتم بسابقين إلى الخلاص، وهذه الأقوال متقاربة. واعلم أن نوحاً عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة، فقال: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي ألبتة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد، وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه، قالوا: إن نوحاً عليه السلام قال: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } والتقدير: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم، وهذا صريح في مذهبنا، أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول، وهذا مسلم، فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه، بل نقول إن نوحاً عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم، بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول: أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة، وإذا لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم، فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه.

السابقالتالي
2 3