الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً صلى الله عليه وسلم في أكثر الأحوال، فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون، وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل، وكانوا كاذبين فيه، بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى. ونظير هذه الآية قوله تعالى:مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء: 18] وقوله:مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلأَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومالَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20] وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن في الآية قولين: القول الأول: أنها مختصة بالكفار، لأن قوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق، لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها، إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر، لأن قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لا يليق إلا بالكفار، فصار تقدير الآية: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة، كان حكمه كذا وكذا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه، فمنهم من قال: المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا، وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر. والقول الثاني: أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. والقول الثالث: أن المراد: اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس. والقول الرابع: وهو الذي اختاره القاضي أن المراد: من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها، وعمل الخير قسمان: العبادات، وإيصال المنفعة إلى الحيوان، ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناطر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار. فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا، فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، فكلها تكون من أعمال الخير، فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم. وأما العبادات: فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة، فإذا لم يؤت بتلك النية، وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا، وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات. وإذا عرفت هذا فنقول قوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر.

السابقالتالي
2