الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } * { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم، ذكر بعده ما يدل على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب. فقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ { ٱلإِنسَـٰنَ } في هذه الآية فيه قولان: القول الأول: أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى استثنى منه قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر، وذلك يدل على ما قلناه. الثاني: أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى:وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } [العصر: 1 ـ 3] وموافقة أيضاً لقوله تعالى:إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج: 19 ـ 21] الثالث: أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور، فإذا نزعت منك فيؤس قنوط. والقول الثاني: أن المراد منه الكافر، ويدل عليه وجوه: الأول: أن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع، وههنا لا مانع فوجب حمله عليه والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة. الثاني: أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤساً، وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى:إنه لا ييأس من روح الله إلا القووم الكافرون } [يوسف: 87] ووصفه أيضاً بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضاً بأنه عند وجدان الراحة يقول: { ذهب السيئات عني } [هود:10] وذلك جراءة على الله تعالى، ووصفه أيضاً بكونه فرحاًوٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص: 76] ووصفه أيضاً بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدين. ثم قال الناظرون لهذا القول: وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات. المسألة الثانية: لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين، فهذه الإذاقة من قليل، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها.

السابقالتالي
2