الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } * { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ }

فيه مسائل: المسألة الأولى: الإلهاء الصرف إلى اللهو. واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى، ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره، فلهذا قال أهل اللغة: ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني، ومنه الحديث: " أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه " أن تركه وأعرض عنه، وكل شيء تركته فقد لهيت عنه، والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال: تكاثر القوم تكاثراً إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب، وقال أبو مسلم: التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الإثنين فيكون مفاعله، ويحتمل تكلف الفعل تقول: تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره، وتقول: تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول: تغافلت، ويحتمل أيضاً الفعل بنفسه كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه، ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من إثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه:أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [الكهف: 34] ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله، واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى:وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } [الحديد: 20]. المسألة الثانية: اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعاً من أنواع السعادة لنفسه، وأجناس السعادة ثلاثة: فأحدها: في النفس والثانية: في البدن والثالثة: فيما يطيف بالبدن من خارج، أما التي في النفس فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم:رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } [الشعراء: 83] وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية. وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية، وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان: أحدهما: ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له. وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية، إذا عرفت هذا فنقول: العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل، فيكون ذلك ترجيحاً لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال: { أَلْهَـٰكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها.

السابقالتالي
2 3