الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } * { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات، وفي الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه: أحدها: أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلاً قوياً. وثانيها: ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت. وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن الجهال، وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة. ورابعها: أنا قد دللنا على أن محمداً عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علماً، ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت، ومن غير زيادة ومن غير نقصان، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل. واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة. فالقصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، وهي المذكورة في هذه الآية، وفيها وجهان من الفائدة: الأول: أن قوم نوح عليه السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة. والثاني: أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا. المسألة الثانية: أن نوحاً عليه السلام قال لقومه: { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } وهذا جملة من الشرط والجزاء، أما الشرط فهو مركب من قيدين: القيد الأول: قوله: { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى } قال الواحدي في «البسيط»: يقال كبر يكبر كبراً في السن، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبراً وكبارة. قال ابن عباس: ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة. يقال: أقام بين أظهرهم مقاماً وإقامة، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه، وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله: { كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى } جار مجرى قولهم: فلان ثقيل الظل.

السابقالتالي
2 3 4