الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } * { فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } * { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب. فالحجة الأولى: ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة. أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض، أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضاً إلى الغذاء. ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى، فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى، وأما أحوال الحواس فكذلك، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم، وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله: { وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ } وفيه وجهان: الأول: أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ } أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر. والثاني: أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون على القول الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاماً كلياً، وهو قوله: { وَمَن يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ } وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام: { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة. ثم قال تعالى: { فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ } ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو { رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه، وإذا ثبت أن هذا هو الحق، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً.

السابقالتالي
2