الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها. وقوله: { هُنَالِكَ } معناه: في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان، وفي قوله: { تَبْلُواْ } مباحث: البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي { تَتْلُواْ } بتاءين، وقرأ عاصم { نبلوكُلُّ نَفْسٍ } بالنون ونصب كل والباقون { تَبْلُواْ } بالتاء والباء. أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان: الأول: أن يكون معنى قوله: { تَتْلُواْ } أي تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار. الثاني: أن يكون المعنى: أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى:ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء: 14] وقال:فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَءونَ كِتَـٰبَهُمْ } [الإسراء: 71] وأما قراءة عاصم فمعناها: أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، والمعنى: أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها، إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان قبيحاً فهي شقية، والمعنى نفعل بها فعل المختبر، كقوله تعالى:لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] وأما القراءة المشهورة فمعناها: أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت. البحث الثاني: الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى:وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ } [الأعراف: 168] ويقال: البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء. ولقائل أن يقول: إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال، فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء؟ وجوابه: أن الابتلاء سبب لحدوث العلم، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور. وأما قوله: { وَرُدُّواْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه، وههنا فيه احتمالات: الأول: أن يكون المراد من قوله: { وَرُدُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره. والثاني: أن يكون المراد { وَرُدُّواْ } إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب، منبهاً بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير. الثالث: أن يكون المراد من قوله: { وَرُدُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته، بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى، ولذلك قال: { مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق. وأما قوله: { مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } فقد مر تفسيره في سورة الأنعام. وأما قوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق.