الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانياً، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } وفي تفسيره وجوه: الوجه الأول: أن النفس الإنسانية لها قوتان: القوة النظرية: وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله. والقوة العملية: وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله. فقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر. الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية قال القفال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى. الوجه الثالث: { ٱلَّذِينَ آمنوا } أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال:فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلاْبْصَـٰرِ } [الحشر: 2] وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال:وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } [المائدة: 83] ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 41] وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال:أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْء فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } [النمل: 25]. واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة. المرتبة الأولى: قوله: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلاْنْهَـٰرُ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تفسير قوله: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } وجوه: الأول: أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه: أحدها: قوله تعالى:يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم } [الحديد: 12] وثانيها: ما روي أنه عليه السلام قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وثالثها: قال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها: وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس، فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6