الرئيسية - التفاسير


* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } يا بني آدم { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم. فإن قلت علام عطف قوله { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }؟ قلت فيه وجهان أحدهما أن يعطف على محذوف، كأنه قيل من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها، وخلق منها زوجها. وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها { وَبَثَّ مِنْهُمَا } نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني أن يعطف على خلقكم، ويكون الخطاب في { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبحث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها؟ قلت لأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنَّه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة. وقرىء «وخالق منها زوجها. وباث منهما»، بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق { تَسَاءلُونَ بِهِ } تتساءلون به، فأدغمت التاء في السين. وقرىء «تساءلون» بطرح التاء الثانية، أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم. فيقول بالله وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف. وأناشدك الله والرحم. أو تسألون غيركم بالله والرحم، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع، كقولك رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ «تسلون به». مهموز أو غير مهموز. وقرىء «والأرحام» بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين إما على واتقوا الله والأرحام، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور، كقولك مررت بزيد وعمراً. وينصره قراءة ابن مسعود «تسألون به وبالأرحام»، والجر على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك مررت به وزيد وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك مررت به وبزيد وهذا غلامه وغلام زيد ألا ترى إلى صحة قولك رأيتك وزيداً ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.

السابقالتالي
2