الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله. { وَهاجَرُوا } يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومُهم وعشيرتهم. { وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصابها في حرب أعداء الله من الكفار في سبيل الله، يقول في دين الله الذي جعله طريقاً إلى رحمته والنجاة من عذابه. { وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا } يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه يعني أنهم جعلوا لهم مأوى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول: أسكنوهم وجعلوا لهم من منازلهم مساكن، إذ أخرجهم قومهم من منازلهم { ونَصَرُوا } يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين. { أُولئكَ بعضُهمْ أوْلياءُ بَعْضٍ } يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد بقوله: { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ }. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ } يعني في الميراث. جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، قال الله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا } يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل الله هذه الآية: { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ } في الميراث، فنسخت التي قلبها، وصار الميراث لذوي الأرحام. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يقول: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو الشهادة بعد ذلك { وَالَّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ... } إلى قوله: { حتى يُهاجِرُوا } وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل. منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم، { وآوَوْا وَنَصَرُوا } وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، فكانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاريّ بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله: { ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا } وكان حقًّا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذين لا ميثاق لهم.

السابقالتالي
2 3 4