الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري والعادلين بي الآلهة والأوثان سخطي، لأَحلّ بهم عقوبتي فأهلكهم كما أهلكتُ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، فكثيراً ما أهلكت قبلهم من أهل قرًى عصوني وكذّبوا رسلي وعبدوا غيري. { فجاءَها بأْسُنا بَياتاً } يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلاً قبل أن يصبحوا، أوجاءتهم قائلين، يعني نهاراً في وقت القائلة. وقيل: «وكم» لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المثلاث بتكذيبهم رسله وخلافهم عليه، وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد، كما قال الفرزدق:
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يا جَرِيرُ وخالَةٍ   فَدْعاءَ قدْ حَلَبَتْ عَليَّ عِشارِي
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه أهلك قرى، فما في خبره عن إهلاكه القرى من الدليل على إهلاكه أهلها؟ قيل: إن القرى لا تسمى قرى ولا القرية قرية إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم، ففي إهلاكها من فيها من أهلها. وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن القرية، والمراد به أهلها. والذي قلنا في ذلك أولى بالحقّ لموافقته ظاهر التنزيل المتلوّ. فإن قال قائل: وكيف قيل: { وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بأْسُنا بَيَاتاً أوْ هُمْ قائِلُونَ } وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسخطه بها؟ فكيف قيل «أهلكناها فجاءها» وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها؟ فما وجه مجيء ذلك قوماً قد هلكوا وبادوا ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين كلاهما صحيح واضح منهجه: أحدهما أن يكون معناه: وكم من قرية أهلكناها بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى واختيارها اتباع أمر أوليائها، المُغويها عن طاعة ربها، فجاءها بأسنا إذ فعلت ذلك بياتاً، أو هم قائلون. فيكون إهلاك الله إياها: خذلانه لها عن طاعته، ويكون مجيء بأس الله إياهم جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم. والآخر منهما: أن يكون الإهلاك هو البأس بعينه. فيكون في ذكر الإهلاك الدلالة على ذكر مجيء البأس، وفي ذكر مجيء البأس الدلالة على ذكر الإهلاك. وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب بُدىء بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بديء بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك، وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني إذّ كانت الزيارة هي الكرامة، فسواء عندهم قدّم الزيارة وأخَّر الكرامة، أو قدّم الكرامة وأخَّر الزيارة فقال: أكرمتني فزرتني. وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفاً، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحاً، وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا.

السابقالتالي
2