الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس إذ عصاه، فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له، يقول: { قالَ } الله لإبليس: { ما مَنَعَكَ } أيّ شيء منعك { ألاَّ تَسْجُدَ }: أن تدع السجود لآدم، { إذْ أمَرْتُكَ } أن تسجد. { قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ } يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم، { خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }. فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس، ألحقته الملامة على السجود أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود، فكيف قيل له: { ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسْجُدَ إذْ أمرْتُكَ }؟ وإن كان النكير على السجود، فذلك خلاف ما جاء به التنزيل في سائر القرآن، وخلاف ما يعرفه المسلمون. قيل: إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له، غير أن في تأويل قوله: { ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ } بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافاً أبدأ بذكر ما قالوا، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد، و«لا» ههنا زائدة، كما قال الشاعر:
أبَى جُودُه لا البُخْلَ واستَعْجَلَتْ بِهِ   نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ قَاتِلَهْ
وقال: فسرته العرب: أبى جوده البخل، وجعلوا «لا» زائدة حشواً ههنا وصلوا بها الكلام. قال: وزعم يونس أن أبا عمرو كانَ يجرّ «البخل»، ويجعل «لا» مضافة إليه، أراد: أبى جوده «لا» التي هي للبخل، ويجعل «لا» مضافة، لأن «لا» قد تكون للجود والبخل، لأنه لو قال له: امنع الحقّ ولا تعط المسكين، فقال «لا» كان هذا جوداً منه. وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله، غير أنه زعم أن العلة في دخول «لا» في قوله: { أنْ لا تَسْجُدَ } أن في أوّل الكلام جحداً، يعني بذلك قوله: { لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد الجحد، كالاستيثاق والتوكيد له قال: وذلك كقولهم:
ما إنْ رأيْنا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ   سُودِ الرُّءُوسِ فَوَالِجٌ وَفُيُولُ
فأعاد على الجحد الذي هو «ما» جحداً، وهو قوله «إن» فجمعهما للتوكيد. وقال آخر منهم: ليست «لا» بحشو في هذا الموضع، ولا صلة، ولكن المنع ههنا بمعنى القول. إنما تأويل الكلام: من قال لك لا تسجد إذا أمرتك بالسجود؟ ولكن دخل في الكلام «أنْ» إذا كان المنع بمعنى القول لا في لفظه، كما يفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول، وهو له في اللفظ مخالف كقولهم: ناديت أن لا تقم، وحلفت أن لا تجلس، وما أشبه ذلك من الكلام. وقال بعض من روى: «أبى جوده لا البخل» بمعنى: كلمة البخل، لأن «لا» هي كلمة البخل، فكأنه قال: كلمة البخل.

السابقالتالي
2 3