الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله { الَّذِي جَعَلَكُمْ } أيها الناس { خَلائِفَ الأرْضِ } بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض، تخلفونهم فيها، وتعمرونها بعدهم. والخلائف: جمع خليفة، كما الوصائف جمع وصيفة، وهي من قول القائل: خَلَف فلان فلاناً في داره يَخْلُفُه فهو خليفة فيها، كما قال الشماخ:
تُصِيبُهُمْ وتُخْطِينِي المنَايا   وأُخْلَفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
وذلك كما: حدثني الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } قال: أما خلائف الأرض: فأهلك القرون، واستخلفنا فيها بعدهم. وأما قوله: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ } فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم، فجعل بعضكم فوق بعض، بأن رفع هذا على هذا بما بسط لهذا من الرزق ففضله بما أعطاه من المال والغنى على هذا الفقير فيما خوّله من أسباب الدنيا، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيد والقوّة على هذا الضعيف الواهن القُوَى، فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا وخفض من درجة هذا عن درجة هذا. وذلك كالذي: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ } يقول: في الرزق. وأما قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ } فإنه يعني: ليختبركم فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه، فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصي، ومن المؤدّي مما آتاه الحقّ الذي أمره بأدائه منه والمفرط في أدائه. القول في تأويل قوله تعالى: { إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }. يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه، ولمن ابتلي منه فيما منحه من فضله وطوْله، تولياً وإدباراً عنه، مع إنعامه عليه وتمكينه إياه في الأرض، كما فعل بالقرون السالفة. { وَإنَّهُ لَغَفُورٌ }: يقول وإنه لساتر ذنوب من ابتلي منه إقبالاً إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة، واختباره إياه بأمره ونهيه، فمغطّ عليه فيها وتارك فضيحته بها في موقف الحساب. { رَحِيمٌ } بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه.