الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ } فقال بعضهم: معناه: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } وهو أعظم من أن تدركه الأبصار. حدثني يونس بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي، في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصرُه يحيط بهم، فذلك قوله: { لا تُدْركُهُ الأبْصَارُ... } الآية. واعتلّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: إن الله قال: «فَلَمَّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنْتُ» قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون، ولا شكّ أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئاً. قالوا: فمعنى قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } بمعنى: لا تراه بعيداً، لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه، كما قال جلّ ثناؤه مخبراً عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم حين قرب منهم أصحاب فرعون: فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُون لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدركون لقوله:ولَقَدْ أوْحَيْنا إلى مُوسَى أنْ أسْرِ بِعِبادِي فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه ويدركه ولا يراه، فكان معلوماً بذلك أن قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم، بمعنى: أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئاً يحيط به. قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به، وكما قال جلّ ثناؤه:وَلا يُحِيطُونَ بَشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شاءَ } قالوا: فنفى جلّ ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بما شاء. قالوا: ومعنى العلم في هذا الموضع: المعلوم قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلاَّ بما شاء نفي عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علماً نفي للعلم به، كان كذلك لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر نفي رؤيته له.

السابقالتالي
2 3 4 5 6