الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يقول تعالـى ذكره للذين كانوا حرّموا علـى أنفسهم الطيبـات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حرّموا ذلك بأيـمان حلفوا بها، فنهاهم عن تـحريـمها، وقال لهم: لا يؤاخذكم ربكم بـاللغو فـي أيـمانكم. كما: حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: لـما نزلت:يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُـحَرّمُوا طَيِّبـاتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } فـي القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللـحم علـى أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيـماننا التـي حلفنا علـيها؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بـاللَّغْوِ فِـي أيـمَانِكُمْ }... الآية. فهذا يدلّ علـى ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرموا علـى أنفسهم بأيـمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم. واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز وبعض البصريـين: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِـمَا عَقَّدْتُـمُ الأَيْـمَانَ } بتشديد القاف، بـمعنى: وكدتـم الأيـمان وردّدتـموها وقرّاء الكوفـيـين: «بِـمَا عَقَدْتُـمُ الأَيـمَانَ» بتـخفـيف القاف، بـمعنى: أوجبتـموها علـى أنفسكم، وعزمت علـيها قلوبكم. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ بتـخفـيف القاف، وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل فعلت فـي الكلام، إلا فـيـما يكون فـيه تردّد مرّة بعد مرّة، مثل قولهم: شدّدت علـى فلان فـي كذا إذا كرّر علـيه الشدّ مرّة بعد أخرى، فإذا أرادوا الـخبر عن فعل مرّة واحدة قـيـل: شَدَّدت علـيه بـالتـخفـيف. وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم أن الـيـمين التـي تـجب بـالـحنث فـيها الكفـارة تلزم بـالـحنث فـي حلف مرّة واحدة وإن لـم يكرّرها الـحالف مرّات، وكان معلوماً بذلك أن الله مؤاخذ الـحالف العاقد قلبه علـى حلفه وإن لـم يكرّره ولـم يردّده وإذا كان ذلك كذلك لـم يكن لتشديد القاف من عقَّدتـم وجه مفهوم. فتأويـل الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها الـمؤمنون من أيـمانكم بـما لغوتـم فـيه، ولكن يؤاخذكم بـما أوجبتـموه علـى أنفسكم منها وعقدت علـيه قلوبكم. وقد بـينا الـيـمين التـي هي لغو والتـي الله مؤاخذ العبد بها، والتـي فـيها الـحنث والتـي لا حنث فـيها، فـيـما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادة ذلك فـي هذا الـموضع. وأما قوله: { بِـمَا عَقّدْتُـمُ الأَيـمَانَ } فإن هناداً: حدثنا قال: ثنا وكيع، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمُ الأَيَـمانَ } قال: بـما تعمدتـم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن: { وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمُ الأَيَـمانَ } يقول: ما تعمدتَ فـيه الـمأثم، فعلـيك فـيه الكفـارة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَكَفَّـارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد