الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { أفَرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } فقال بعضهم: معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يحرِّم ما حَرّمَ، ولا يحلل ما حَلَّلَ، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: { أفَرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدىً من الله ولا برهان. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: { أفَرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } قال: لا يهوي شيئاً إلا ركبه لا يخاف الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كانت قريش تعبد العُزّى، وهو حجر أبيض، حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الآخر، فأنزل الله { أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ }. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء، لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره. وقوله: { وأضَلَّهُ اللّهُ على عِلْمٍ } يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس { وأضَلَّهُ اللّهُ على عِلْمٍ } يقول: أضله لله في سابق علمه. وقوله: { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } يقول تعالى ذكره: وطَبَعَ على سمعه أن يسمع مواعظ الله وآي كتابه، فيعتبر بها ويتدبرها، ويتفكر فيها، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهُدى. وقوله: { وَقَلْبِهِ } يقول: وطبع أيضاً على قلبه، فلا يعقل به شيئاً، ولا يعي به حقاً. وقوله: { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً } يقول: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله، فيستدلّ بها على وحدانيته، ويعلم بها أن لا إله غيره. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشاوَةً } فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة { غِشاوَةً } بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة «غَشْوَةً» بمعنى: أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة، ومرّة واحدة، بفتح الغين بغير ألف، وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقوله: { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ } يقول تعالى ذكره: فمن يوفِّقه لإصابة الحقّ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه { أفَلا تَذَكَّرُونَ } أيها الناس، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدي أبداً، ولن يجد لنفسه ولياً مرشداً.