الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } فلـما وجد عيسى منهم الكفر. والإحساس: هو الوجود، ومنه قول الله عزّ وجلّ: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ }. فأما الـحسّ بغير ألف، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } والـحسّ أيضاً: العطف والرقة. ومنه قول الكميت:
هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أنْ تَحِسَّ لَهُ   أوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الـخَضِلُ
يعنـي بقوله: أن تـحسّ له: أن ترق له. فتأويـل الكلام: فلـما وجد عيسى من بنـي إسرائيـل الذين أرسله الله إلـيهم جحوداً لنبوّته، وتكذيبـاً لقوله، وصدّاً عما دعاهم إلـيه من أمر الله، قال: { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } يعنـي بذلك: قال عيسى: من أعوانـي علـى الـمكذّبـين بحجة الله، والـمُوَلِّـين عن دينه، والـجاحدين نبوّة نبـيه إلـى الله عزّ وجلّ، ويعنـي بقوله { إِلَى ٱللَّهِ }: مع الله، وإنـما حسن أن يقال إلـى الله، بـمعنى: مع الله، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلـى غيره، ثم أرادوا الـخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الآخر إذا ضمّ إلـيه جعلوا مكان مع إلـى أحياناً، وأحياناً تـخبر عنهما بـمع، فتقول الذود إلـى الذود إبل، بـمعنى: إذا ضمـمت الذود إلـى الذود صارت إبلاً، فأما إذا كان الشيء مع الشيء لـم يقولوه بإلـى ولـم يجعلوا مكان مع إلـى غير جائز أن يقال: قدم فلان وإلـيه مال، بـمعنى: ومعه مال. وبـمثل ما قلنا فـي تأويـل قوله: { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنـا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } يقول: مع الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } يقول: مع الله. وأما سبب استنصار عيسى علـيه السلام من استنصر من الـحواريـين، فإن بـين أهل العلـم فـيه اختلافـا، فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما: حدثنـي به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: لـما بعث الله عيسى، فأمره بـالدعوة، نفته بنو إسرائيـل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحون فـي الأرض، فنزل فـي قرية علـى رجل، فضافهم وأحسن إلـيهم، وكان لتلك الـمدينة ملك جبـار معتد، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع علـيه همّ وحزن، فدخـل منزله ومريـم عند امرأته، فقالت مريـم لها: ما شأن زوجك أراه حزيناً؟ قالت: لا تسألـي، قالت: أخبرينـي لعلّ الله يفرّج كربته، قالت: فإن لنا ملكاً يجعل علـى كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده، ويسقـيهم من الـخمر، فإن لـم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته الـيوم الذي يريد أن نصنع له فـيه، ولـيس لذلك عندنا سعة، قالت: فقولـي له: لا يهتـمّ، فإنـي آمر ابنـي فـيدعو له، فـيكفـى ذلك، قالت مريـم لعيسى فـي ذلك، قال عيسى: يا أمه إنـي إن فعلت كان فـي ذلك شرّ، قالت: فلا تبـال، فإنه قد أحسن إلـينا وأكرمنا، قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك فـاملأ قدورك وخوابـيك ماء ثم أعلـمنـي، قال: فلـما ملأهنّ أعلـمه، فدعا الله، فتـحوّل ما فـي القدور لـحماً ومرقاً وخبزاً، وما فـي الـخوابـي خمراً لـم ير الناس مثله قط وإياه طعاماً فلـما جاء الـملك أكل، فلـما شرب الـخمر سأل من أين هذه الـخمر؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا، قال الـملك: فإن خمري أوتـي بها من تلك الأرض فلـيس هي مثل هذه، قال: هي من أرض أخرى فلـما خـلط علـى الـملك اشتدّ علـيه، قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وإنه دعا الله، فجعل الـماء خمراً، قال الـملك، وكان له ابن يريد أن يستـخـلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحبّ الـخـلق إلـيه، فقال: إن رجلاً دعا الله حتـى جعل الـماء خمراً، لـيستـجابنّ له حتـى يحيـي ابنـي، فدعا عيسى فكلـمه، فسأله أن يدعو الله فـيحيـي ابنه، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرًّا، فقال الـملك: لا أبـالـي، ألـيس أراه، فلا أبـالـي ما كان، فقال عيسى علـيه السلام: فإن أحيـيته تتركونـي أنا وأمي نذهب أينـما شئنا، قال الـملك: نعم، فدعا الله، فعاش الغلام فلـما رآه أهل مـملكته قد عاش، تنادوا بـالسلاح، وقالوا: أكلنا هذا حتـى إذا دنا موته يريد أن يستـخـلف ابنه فـيأكلنا كما أكلنا أبوه، فـاقتتلوا، وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع الـيهودي رغيفـان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركنـي، فقال الـيهودي: نعم، فلـما رأى أنه لـيس مع عيسى إلا رغيب ندم فلـما نام جعل الـيهودي يريد أن يأكل الرغيف، فلـما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فـيقول: لا شيء، فـيطرحها، حتـى فرغ من الرغيف كله فلـما أصبحا قال له عيسى: هلـم طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه عيسى، فـانطلقوا، فمرّوا براعي غنـم، فنادى عيسى، يا صاحب الغنـم أجزرنا شاة من غنـمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى الـيهودي، فجاء بـالشاة، فذبحوها وشووها، ثم قال للـيهودي: كل ولا تكسرنّ عظماً! فأكلا، فلـما شبعوا قذف عيسى العظام فـي الـجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله، فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنـم خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريـم، قال: أنت الساحر، وفرّ منه.

السابقالتالي
2 3 4 5