الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه جماعة من أهل الـحجاز والعراق: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر: «وَلا تَحسَبنَّ» بالتاء. ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: لا يحسبنّ الباخلون البخـل هو خيراً لهم. فاكتفـى بذكر يبخـلون من البخل، كما تقول: قدم فلان فسررت به، وأنت تريد فسررت بقدومه، وهو عماد. وقال بعض نـحويـي أهل البصرة: إنـما أراد بقوله: «وَلا تَـحسَبنَّ الَّذِينَ يَبخَـلونَ بِـمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» لا تـحسبن البخـل هو خيراً لهم، فألقـى الاسم الذي أوقع علـيه الـحسبـان به وهو البخـل، لأنه قد ذكر الـحسبـان، وذكر ما آتاهم الله من فضله، فأضمرهما إذ ذكرهما، قال: وقد جاء من الـحذف ما هو أشد من هذا، قال:لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } [الحديد: 10] ولـم يقل: ومن أنفق من بعد الفتـح، لأنه لـما قال:أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ } [الحديد: 10] كان فـيه دلـيـل علـى أنه قد عناهم. وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة، أن «من» فـي قوله:لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ } [الحديد: 10] فـي معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتـح فـي منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتـح، فـالأول مكتف. وقال فـي قوله: { لا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } مـحذوف، غير أنه لـم يحذف إلا وفـي الكلام ما قام مقام الـمـحذوف، لأن «هو» عائد البخـل، و«خيراً لهم» عائد الأسماء، فقد دلّ هذان العائدان علـى أن قبلهما اسمين، واكتفـى بقوله: يبخـلون، من البخـل. قال: وهذا إذا قرىء بـالتاء، فـالبخـل قبل الذين، وإذا قرىء بـالـياء، فـالبخـل بعد الذين، وقد اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل، كما قال الشاعر:
إذَا نُهِيَ السَّفِـيهُ جَرَى إلَـيْهِ   وخالَفَ وَالسَّفـيهُ إلـى خِلافِ
كأنه قال: جرى إلـى السفه، فـاكتفـى عن السفه بـالسفـيه، كذلك اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي، قراءة من قرأ: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } بـالتاء بتأويـل: ولا تـحسبنّ أنت يا مـحمد بخـل الذين يبخـلون بـما أتاهم الله من فضله، هو خيراً لهم، ثم ترك ذكر البخـل، إذ كان فـي قوله هو خيراً لهم، دلالة علـى أنه مراد فـي الكلام، إذ كان قد تقدّمه قوله: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }. وإنـما قلنا قراءة ذلك بـالتاء أولـى بـالصواب من قراءته بـالـياء، لأن الـمـحسبة من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرىء قوله: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } بـالـياء لـم يكن للـمـحسبة اسم يكون قوله: { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } خبراً عنه، وإذا قرىء ذلك بـالتاء كان قوله: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } اسماً له، قد أدّى عن معنى البخـل الذي هو اسم الـمـحسبة الـمتروك، وكان قوله: { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } خبراً لها، فكان جارياً مـجرى الـمعروف من كلام العرب الفصيح.

السابقالتالي
2 3 4 5