الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يقول تعالـى ذكره: { ولـيَسْتَعْفِف الَّذِينَ لا يَجِدُون } ما ينكحون به النساء عن إتـيان ما حرّم الله علـيهم من الفواحش، { حَتَّـى يُغْنِـيَهُمُ اللّهُ مِنْ } سعة { فَضْلِهِ } ، ويوسِّع علـيهم من رزقه. وقوله: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِـمَّا مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ } يقول جلّ ثناؤه: والذين يـلتـمسون الـمكاتبة منكم من مـمالـيككم، { فكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِـمْتُـمْ فِـيهمْ خَيْراً }. واختلف أهل العلـم فـي وجه مكاتبة الرجل عبده الذي قد علـم فـيه خيراً، وهل قوله: { فَكاتِبُوهُم إنْ عَلِـمْتُـمْ فـيهِمْ خَيْراً } علـى وجه الفرض أم هو علـى وجه الندب؟ فقال بعضهم: فرض علـى الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علـم فـيه خيرا إذا سأله العبد ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: أواجب علـيّ إذا علـمت مالاً أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلاَّ واجبـاً. وقالها عمرو بن دينار، قال: قلت لعطاء: أَتأْثِرُه عن أحد؟ قال: لا. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا مـحمد بن بكر، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، عن أنس بن مالك، أن سيرين، أراد أن يكاتبه فتلكَّأ علـيه، فقال له عمر: لتكاتبنه حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: لا ينبغي لرجل إذا كان عنده الـمـملوك الصالـح الذي له الـمال يريد إن يكاتب ألاَّ يكاتبه. وقال آخرون: ذلك غير واجب علـى السيد، وإنـما قوله: { فَكاتِبُوهُمْ }: نَدْب من الله سادَة العبـيد إلـى كتابة من علـم فـيه منهم خير، لا إيجاب. ذكر من قال ذلك: حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الأمر عندنا أن لـيس علـى سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولـم أسمع بأحد من الأئمة أكره أحداً علـى أن يكاتب عبده. وقد سمعت بعض أهل العلـم إذا سُئل عن ذلك فقـيـل له: إن الله تبـارك وتعالـى يقول فـي كتابه: { فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِـمْتُـمْ فِـيهِمْ خَيْراً } يتلو هاتـين الآيتـين:فإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فـانْتَشِرُوا فـي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ } قال مالك: فإنـما ذلك أمر أذِن الله فـيه للناس، ولـيس بواجب علـى الناس ولا يـلزم أحداً. وقال الثوريّ: إذا أراد العبد من سيده أن يكاتبه، فإن شاء السيد أن يكاتبه كاتبه، ولا يُجْبر السيد علـى ذلك. حدثنـي بذلك علـيّ عن زيد عنه وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِـمْتُـمْ فِـيهمْ خَيْراً } قال: لـيس بواجب علـيه أن يكاتبه، إنـما هذا أمر أذن الله فـيه ودلـيـل. وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: واجب علـى سيد العبد أن يكاتبه إذا علـم فـيه خيرا وسأله العبد الكتابة وذلك أن ظاهر قوله: { فَكاتِبُوهُمْ } ظاهر أمر، وأمر الله فرضٌ الانتهاء إلـيه، ما لـم يكن دلـيـلٌ من كتاب أو سنة علـى أنه ندب، لـما قد بـيَّنا من العلة فـي كتابنا الـمسمى «البـيان عن أصول الأحكام».

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8