الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ }

يقول تعالـى ذكره: لـمسّكم فـيـما أفضتـم فـيه من شأن عائشة عذاب عظيـم، حين تلقَّونه بألسنتكم. و«إذ» من صلة قوله «لـمسَّكم». ويعنـي بقوله: { تَلَقَّوْنَهُ } تتلقون الإفك الذي جاءت به العصبة من أهل الإفك، فتقبلونه، ويرويه بعضكم عن بعض يقال: تلقـيَّت هذا الكلام عن فلان، بـمعنى أخذته منه وقـيـل ذلك لأن الرجل منهم فـيـما ذُكر يَـلْقـى آخر فـيقول: أَوَ مَا بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ لـيُشِيع علـيها بذلك الفـاحشة. وذكر أنها فـي قراءة أُبـيّ: «إذْ تَتَلقَّوْنَهُ» بتاءين، وعلـيها قَرَأَهُ الأمصار، غير أنهم قرءوها: { تَلَقَّوْنَهُ } بتاء واحدة، لأنها كذلك فـي مصاحفهم. وقد رُوِي عن عائشة فـي ذلك، ما: حدثنـي به مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكَم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقرأ هذه الآية: «إذْ تَلِقُوْنَهُ بألْسِنَتِكُمْ» تقول: إنـما هو وَلْق الكذب، وتقول: إنـما كانوا يَـلِقُون الكذب. قال ابن أبـي ملـيكة: وهي أعلـم بـما فـيها أنزلت. قال نافع: وسمعت بعض العرب يقول: اللَّـيْق: الكذب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا نافع بن عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الـجَمَـحِيّ، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، أنها كانت تقرأ: «إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتُكُمْ» وهي أعلـم بذلك وفـيها أنزلت، قال ابن أبـي ملـيكة: هو من وَلْق الكذب. قال أبو جعفر: وكأن عائشة وَجَّهت معنى ذلك بقراءتها «تلِقُونَهُ» بكسر اللام وتـخفـيف القاف، إلـى: إذ تستـمرّون فـي كذبكم علـيها وإفككها بألسنتكم، كما يقال: وَلَق فلان فـي السير فهو يَـلِق: إذا استـمرّ فـيه وكما قال الراجز:
إنَّ الـجُلَـيْدَ زَلِقٌ وَزُمَلِقْ   جاءتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّأَمِ تَلِقْمُ
جَوَّعُ البَطْنِ كِلابِـيُّ الـخُـلُقْ   
وقد رُوي عن العرب فـي الوَلْق: الكذب: الأَلْق، والإِلق: بفتـح الألف وكسرها، ويقال فـي فعلت منه: أَلِقْتُ، فأنا أَلِقُ وقال بعضهم:
مَنْ لِـيَ بـالـمُزَرَّرِ الـيَلامِقِ   صاحِبِ أدْهانٍ وألْقٍ آلِقِ
والقراءة التـي لا أستـجيز غيرها: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ } علـى ما ذكرت من قراءة الأمصار، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. وبنـحو الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ بألْسِنَتِكُمْ } قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ } قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض. قوله: { وَتَقُولُونَ بأفْوَاهِكُمْ ما لَـيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ } يقول تعالـى ذكره: وتقولون بأفواهكم ما لـيس لكم به علـم من الأمر الذي تَرْوُونه، فتقولون: سمعنا أن عائشة فعلت كذا وكذا، ولا تعلـمون حقـيقة ذلك ولا صحته. { وَتَـحْسَبُونَهُ هَيِّناً } وتظنون أن قولكم ذلك وروايتكموه بألسنتكم وتلقِّـيكموه بعضكم عن بعض، هَيِّنٌ سهل، لا إثم علـيكم فـيه ولا حرج. { وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيـمٌ } يقول: وتلقِّـيكم ذلك كذلك وقولُكموه بأفواهكم، عند الله عظيـم من الأمر لأنكم كنتـم تؤذون به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلـيـلته.