الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }

يعنـي بقوله جل ثناؤه: { آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ }: أنزلناه إلـيه. وقد بـينا أن معنى الإيتاء: الإعطاء فـيـما مضى قبل، والكتاب الذي آتاه الله موسى علـيه السلام هو التوراة. وأما قوله: { وَقَـفَّـيْنا } فإنه يعنـي: وأرْدَفْنا وأتبعنا بعضهم خـلف بعض، كما يقـفو الرجل الرجل إذا سار فـي أثره من ورائه. وأصله من القَـفَـا، يقال منه: قـفوت فلانا: إذا صرت خـلف قـفـاه، كما يقال دَبَرْته: إذا صرت فـي دبره. ويعنـي بقوله: { مِنْ بَعْدِهِ }: من بعد موسى. ويعنـي { بـالرُّسُلِ } الأنبـياء، وهم جمع رسول، يقال: هو رسول وهم رسل، كما يقال: هو صبور وهم قوم صُبُر، وهو رجل شكور وهم قوم شُكُر. وإنـما يعنـي جل ثناؤه بقوله: { وَقَـفّـيْنا مِنْ بَعْدِهِ بـالرُّسُلِ } أي أتبعنا بعضهم بعضاً علـى منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبـيّاً بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلـى زمان عيسى ابن مريـم، فإنـما بعثه يأمر بنـي إسرائيـل بإقامة التوراة والعمل بـما فـيها والدعاء إلـى ما فـيها، فلذلك قـيـل: { وَقَـفّـيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بـالرُّسُلِ } يعنـي علـى منهاجه وشريعته، والعمل بـما كان يعمل به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيِّنَاتِ }. يعنـي بقوله: { وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيِّنَاتِ } أعطينا عيسى ابن مريـم. ويعنـي بـالبـينات التـي آتاه الله إياها ما أظهر علـى يديه من الـحجج والدلالة علـى نبوّته من إحياء الـموتـى وإبراء الأكْمةِ ونـحو ذلك من الآيات التـي أبـانت منزلته من الله، ودلت علـى صدقه وصحة نبوّته. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: ثنا مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس: { وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيِّنَاتِ } أي الآيات التـي وضع علـى يديه من إحياء الـموتـى، وخـلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فـيه فـيكون طائراً بإذن الله، وإبراء الأسقام، والـخبر بكثـير من الغيوب مـما يدّخرون فـي بـيوتهم، وما ردّ علـيهم من التوراة مع الإنـجيـل الذي أحدث الله إلـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }. أما معنى قوله: { وأيّدْناهُ } فإنه قوّيناه فأعنّاه، كما: حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك: { وأيّدْناهُ } يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك الله: أي قوّاك، وهو رجل ذو أيد وذو آدٍ، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
مِنْ أن تَبَدَّلْتُ بِآدِي آدا   
يعنـي بشبـابـي قوّة الـمشيب. ومنه قول الآخر:
إنَّ القِدَاحَ إذا اجْتَـمَعْنَ فَرَامَهَا   بـالكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أيِّدِ
يعني بالأيِّد القويّ. ثم اختلف فـي تأويـل قوله: { برُوحِ القُدُسِ }. فقال بعضهم: روح القدس الذي أخبر الله تعالـى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريـل علـيه السلام.

السابقالتالي
2 3