الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

قال أبو جعفر: ويتـجه فـي قوله: { ثُمَّ أنْتُـمْ هَؤُلاَءِ } وجهان: أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتـم يا هؤلاء، فترك «يا» استغناء بدلالة الكلام علـيه، كما قال:يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [يوسف: 29] وتأويـله: يا يوسف أعرض عن هذا. فـيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتـم يا معشر يهود بنـي إسرائيـل بعد إقراركم بـالـميثاق الذي أخذته علـيكم لا تسفكون دماءكم ولا تـخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتـم بعد شهادتكم علـى أنفسكم بأن ذلك حق لـي علـيكم لازم لكم الوفـاء لـي به { تقتلون أنفسكم وتـخرجون فريقا منكم من ديارهم } متعاونـين علـيهم فـي إخراجكم إياهم بـالإثم والعدوان. والتعاون: هو التظاهر وإنـما قـيـل: للتعاون التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض، فهو تفـاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلـى ظهر بعض. والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم أنتـم قومٌ تقتلون أنفسكم فـيرجع إلـى الـخبر عن «أنتـم»، وقد اعترض بـينهم وبـين الـخبر عنهم بهؤلاء، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، ولو قـيـل: أنا هذا أجلس كان صحيحاً جائزاً، كذلك أنت ذاك تقوم. وقد زعم بعض البصريـين أن قوله «هؤلاء» فـي قوله: { ثُمَّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ } تنبـيه وتوكيد لـ«أنتـم»، وزعم أن «أنتـم» وإن كانت كناية أسماء جماع الـمخاطبـين، فإنـما جاز أن يؤكدوا ب«هؤلاء» و«أولاء»، لأنها كناية عن الـمخاطبـين، كما قال خُفـاف بن ندبة:
أقُولُ لَهُ وَالرُّمْـحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ   تَبَـيّنْ خُفـافـاً إنّنِـي أنا ذَلِكا
يريد: أنا هذا. وكما قال جل ثناؤه:حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22]. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية نـحو اختلافهم فـيـمن عنـي بقوله:وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة: 84]. ذكر اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك: حدثنا مـحمد بن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: { ثُمَّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُـخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بإِلاثْمِ والعُدْوَانِ } إلـى أهل الشرك حتـى تسفكوا دماءهم معهم، وتـخرجوهم من ديارهم معهم. فقال: أنّبهم الله من فعلهم، وقد حرّم علـيهم فـي التوراة سفك دمائهم، وافترض علـيهم فـيها فداء أسراهم فكانوا فريقـين طائفة منهم من بنـي قـينقاع حلفـاء الـخزرج والنضير وقريظة حلفـاء الأوس، فكانوا إذا كانت بـين الأوس والـخزرج حرب خرجت بنو قـينقاع مع الـخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقـين حلفـاءه علـى إخوانه حتـى يتسافكوا دماءهم بـينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما علـيهم وما لهم، والأوس والـخزرج أهل الشِرْك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا ناراً، ولا بعثاً، ولا قـيامة، ولا كتابـاً، ولا حراماً، ولا حلالاً فإذا وضعت الـحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقاً لـما فـي التوراة وأخذا به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قـينقاع ما كان من أسراهم فـي أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان فـي أيدي الـخزرج منهم، ويُطِلُّون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فـيـما بـينهم مظاهراً لأهل الشرك علـيهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6