الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

قال أبو جعفر: قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } فـي الـمعنى والإعراب نظير قوله:وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [البقرة: 83]. وأما سفك الدم، فإنه صبه وإراقته. فإن قال قائل: وما معنى قوله: { لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ }؟ وقال: أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم، ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننتَ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا، فكان فـي قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه، إذْ كانت ملّتهما بـمنزلة رجل واحد، كما قال علـيه الصلاة والسلام: " إنَّـمَا الـمُؤْمِنُونَ فِـي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَـيْنَهُمْ بـمَنْزِلَةِ الـجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الـجَسَدِ بِـالـحُمّى وَالسَّهَرِ " وقد يجوز أن يكون معنى قوله: { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فـيقاد به قصاصا، فـيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استـحقت به القتل، فأضيف بذلك إلـيه قتل ولـيّ الـمقتول إياه قصاصاً بولـيه، كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستـحقّ به العقوبة فـيعاقب العقوبة: أنت جنـيت هذا علـى نفسك. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم بعضاً، { وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } ونفسُك يا ابن آدم أهل ملّتك. حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: { وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، { وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } يقول: لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار. حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة فـي قوله: { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ } يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً بغير حق { وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمَّ أقْرَرْتُـمْ }. يعنـي بقوله: { ثُمَّ أقْرَرْتُـمْ } بـالـميثاق الذي أخذنا علـيكم { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ }. كما: حدثنا الـمثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: { ثُمَّ أقْرَرْتُـمْ } يقول: أقررتـم بهذا الـميثاق. وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ }. اختلف أهل التأويـل فـيـمن خوطب بقوله { وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ }. فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالـى ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانَـيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إلـيه مؤنبـاً لهم علـى تضيـيع أحكام ما فـي أيديهم من التوراة التـي كانوا يقرّون بحكمها، فقال الله تعالـى لهم: { ثُمَّ أقْرَرْتُـمْ } يعنـي بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم { وأنْتُـمُ تَشْهَدُونَ } علـى إقراركم بأخذ الـميثاق علـيهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقـي علـيهم.

السابقالتالي
2