الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

قال أبو جعفر: زعم بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويـل قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } وقال ربك، وأن «إذ» من الـحروف الزوائد، وأن معناها الـحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه فـي ذلك ببـيت الأسود بن يعفر:
فإذَا وَذَلِكَ لامَهاهَ لِذِكْرِهِ   وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِـحاً بِفَسادِ
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره. وببـيت عبد مناف بن ربع الهذلـي:
حَتَّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فـي قُتائِدَةٍ   شَلاًّ كمَا تَطْرُدُ الـجَمَّالَةُ الشُّرُدَا
وقال: معناه: حتـى أسلكوهم. قال أبو جعفر: والأمر فـي ذلك بخلاف ما قال وذلك أن «إذ» حرف يأتـي بـمعنى الـجزاء، ويدل علـى مـجهول من الوقت، وغير جائز إبطال حرف كان دلـيلاً علـى معنى فـي الكلام. إذ سواء قـيـلُ قائلٍ هو بـمعنى التطوّل، وهو فـي الكلام دلـيـل علـى معنى مفهوم. وقـيـلُ آخر فـي جميع الكلام الذي نطق به دلـيلاً علـى ما أريد به وهو بـمعنى التطول. ولـيس لـمدَّعي الذي وصفنا قوله فـي بـيت الأسود بن يعفر، أن «إذا» بـمعنى التطوّل وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل الـمعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فإذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرِهِ   
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نـحن فـيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله ذلك إلـى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فـيه لامهاه لذكره، يعنـي لا طعم له ولا فضل، لإعقاب الدهر صالـح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع:
حتَّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِـي قُتائِدَةٍ   شَلاًّ...........
لو أسقط منه «إذا» بطل معنى الكلام لأن معناه: حتـى إذا أسلكوهم فـي قتائدة سلكوا شلاًّ. فدل قوله: «أسلكوهم شلاًّ» علـى معنى الـمـحذوف، فـاستغنى عن ذكره بدلالة «إذا» علـيه، فحذف. كما قد ذكرنا فـيـما مضى من كتابنا علـى ما تفعل العرب فـي نظائر ذلك، وكما قال النـمر بن تولب:
فإنَّ الـمَنِـيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا   فَسَوْفَ تُصَادِفُه أيْنـما
وهو يريد: أينـما ذهب. وكما تقول العرب: أتـيتك من قبل ومن بعد تريد: من قبل ذلك ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك فـي «إذا» كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد: وإذا لـم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر:
فإذَا وَذَلِكَ لاَ يَضُرُّكَ ضُرُّهُ   فـي يَوْمِ أثل نائلاً أوْ أُنْكَدَ
نظير ما ذكرنا من الـمعنى فـي بـيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ } لو أبطلت «إذ» وحذفت من الكلام، لاستـحال عن معناه الذي هو به وفـيه «إذ». فإن قال قائل: فما معنى ذلك؟ وما الـجالب ل«إذْ»، إذ لـم يكن فـي الكلام قبله ما يعطف به علـيه؟ قـيـل له: قد ذكرنا فـيـما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد