الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

فأخبرهم جل ذكره أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعاً، لأن الأرض وجميع ما فـيها لبنـي آدم منافع. أما فـي الدين فدلـيـل علـى وحدانـية ربهم، وأما فـي الدنـيا فمعاش وبلاغ لهم إلـى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }. وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره، عائد علـى اسمه فـي قوله:كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } [البقرة: 28]. ومعنى خـلقه ما خـلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلـى الوجود. و«ما» بـمعنى «الذي». فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بـالله وقد كنتـم نطفـاً فـي أصلاب آبـائكم، فجعلكم بشراً أحياء، ثم يـميتكم، ثم هو مـحيـيكم بعد ذلك، وبـاعثكم يوم الـحشر للثواب والعقاب، وهو الـمنعم علـيكم بـما خـلق لكم فـي الأرض من معايشكم وأدلتكم علـى وحدانـية ربكم. و«كيف» بـمعنى التعجب والتوبـيخ لا بـمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويحكم كيف تكفرون بـالله، كما قال: فأين تذهبون. وحل قوله:وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [البقرة: 28] مـحلّ الـحال، وفـيه إضمار «قد»، ولكنها حذفت لـما فـي الكلام من الدلـيـل علـيها. وذلك أن «فعل» إذا حلت مـحلّ الـحال كان معلوماً أنها مقتضية «قد»، كما قال جل ثناؤه:أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [النساء: 90] بـمعنى: قد حصرت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحت كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } كان قتادة يقول: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } نعم والله سخر لكم ما فـي الأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ }. قال أبو جعفر: اختلف فـي تأويـل قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } فقال بعضهم: معنى استوى إلـى السماء، أقبل علـيها، كما تقول: كان فلان مقبلاً علـى فلان ثم استوى علـيّ يشاتـمنـي واستوى إلـيّ يشاتـمنـي، بـمعنى: أقبل علـيّ وإلـيّ يشاتـمنـي. واستشهد علـى أن الاستواء بـمعنى الإقبـال بقول الشاعر:
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى   سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضَّجوع، وكان ذلك عنده بـمعنى أقبلن. وهذا من التأويـل فـي هذا البـيت خطأ، وإنـما معنى قوله: «واستوين من الضجوع» عندي: استوين علـى الطريق من الضجوع خارجات، بـمعنى استقمن علـيه. وقال بعضهم: لـم يكن ذلك من الله جل ذكره بتـحوّل، ولكنه بـمعنى فعله، كما تقول: كان الـخـلـيفة فـي أهل العراق يوالـيهم ثم تـحوّل إلـى الشام، إنـما يريد تـحوّل فعله. وقال بعضهم: قوله { ثُمَّ اسْتَوَى إلـى السَّمَاءِ } يعنـي به: استوت، كما قال الشاعر:
أقُولُ لَهُ لَـمَّا اسْتَوَى فـي تُرَابِهِ   علـى أيّ دِينٍ قَبَّلَ الرأسَ مُصْعَبُ

السابقالتالي
2 3 4 5 6