الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

قال أبو جعفر: وإذ كان تأويـل قول الله جل ثناؤه:ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فـاعل بـالـمنافقـين فـي الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم فـي ظلـم أهوال يوم القـيامة يترددون، وفـي حنادسها لا يبصرون فبـينٌ أن قوله جل ثناؤه: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } من الـمؤخر الذي معناه التقديـم، وأن معنى الكلام:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 16-19] وإذ كان ذلك معنى الكلام، فمعلوم أن قوله: { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يأتـيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين. فأما أحد وجهي الرفع، فعلـى الاستئناف لـما فـيه من الذم، وقد تفعل العرب ذلك فـي الـمدح والذم، فتنصب وترفع وإن كان خبراً عن معرفة، كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُم   ُسُمُّ العُداةِ وآفَةُ الـجُزْرِ
النَّازِلِـينَ بِكُلّ مُعْتَرَكٍ   وَالطَّيِّبِـينَ مَعَاقِدَالأُزُرِ
فـيروي: «النازلون والنازلـين» وكذلك «الطيبون والطيبـين»، علـى ما وصفت من الـمدح. والوجه الآخر علـى نـية التكرير من أولئك، فـيكون الـمعنى حينئذٍ:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16] أولئك { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }. وأما أحد وجهي النصب، فأن يكون قطعاً مـما فـي «مهتدين»، من ذكر «أولئك»، لأن الذي فـيه من ذكرهم معرفة، والصمّ نكرة. والآخر أن يكون قطعاً من «الذين»، لأن «الذين» معرفة والصم نكرة. وقد يجوز النصب فـيه أيضاً علـى وجه الذم فـيكون ذلك وجهاً من النصب ثالثاً. فأما علـى تأويـل ما روينا عن ابن عبـاس من غير وجه رواية علـيّ بن أبـي طلـحة عنه، فإنه لا يجوز فـيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف. وأما النصب فقد يجوز فـيه من وجهين: أحدهما الذمّ، والآخر القطع من الهاء والـميـم اللتـين فـي «تركهم»، أو من ذكرهم فـي «لا يبصرون». وقد بـينا القول الذي هو أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك. والقراءةُ التـي هي قراءةُ الرفعُ دون النصب، لأنه لـيس لأحد خلاف رسوم مصاحف الـمسلـمين، وإذا قرىء نصبـاً كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن الـمنافقـين، أنهم بـاشترائهم الضلالة بـالهدى، لـم يكونوا للهدى والـحق مهتدين، بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله علـيهم، بُكْمٌ عن القـيـل بهما، فلا ينطقون بهما والبكم: الـخُرْس، وهو جمع أبكم عميٌ عن أن يبصروهما فـيعقلوهما لأن الله قد طبع علـى قلوبهم بنفـاقهم فلا يهتدون.

السابقالتالي
2