الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ }

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: { وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } وقال أتبـاع الرجال الذين كانوا اتـخذوهم أندادا من دون الله يطيعونهم فـي معصية الله، ويعصون ربهم فـي طاعتهم، إذ يرون عذاب الله فـي الآخرة: { لَوْ أن لنَا كَرة } يعنـي بـالكرّة: الرجعة إلـى الدنـيا، من قول القائل: كررت علـى القوم أكرّ كرّاً، والكرّة: الـمرة الواحدة، وذلك إذا حمل علـيهم راجعاً علـيهم بعد الانصراف عنهم كما قال الأخطل:
وَلَقَدْ عَطَفْنَ علـى فَزَارَةَ عَطْفَةً   كَرَّ الـمَشيحِ وَجُلْنَ ثَمَّ مَـجَالاَ
وكما حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { وقال الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أن لنَا كَرَّةً فَنَتَبرَّأ مِنْهُمْ كمَا تَبّرءوْا مِنَّا } أي لنا رجعة إلـى الدنـيا. حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أنَّ لنَا كَرَّةً } قال: قالت الأتبـاع: لو أن لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم كما تبرّءوا منا. وقوله: { فَنَتَبرَّأَ مِنْهُمْ } منصوب لأنه جواب للتـمنـي بـالفـاء، لأن القوم تـمنوا رجعة إلـى الدنـيا لـيتبرّءوا من الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية الله كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا فـي الدنـيا الـمتبوعون فـيها علـى الكفر بـالله إذْ عاينوا عظيـم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا لـيت لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم،يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27]. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِم }. ومعنى قوله: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ } يقول: كما أراهم العذاب الذي ذكره فـي قوله: { وَرَأوُا العَذَابَ } الذي كانوا يكذبون به فـي الدنـيا، فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الـخبـيثة التـي استـحقوا بها العقوبة من الله { حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ } يعنـي ندامات. والـحسرات جمع حسرة، وكذلك كل اسم كان واحده علـى «فَعْلة» مفتوح الأول ساكن الثانـي، فإن جمعه علـى «فَعَلات»، مثل شهوة وتـمرة تـجمع شهوات وتـمرات، مثقلة الثوانـي من حروفها. فأما إذا كان نعتاً فإنك تدع ثانـيه ساكنا مثل ضخْمة تـجمعها ضخْمات، وعَبْلة تـجمعها عَبْلات، وربـما سكن الثانـي فـي الأسماء كما قال الشاعر:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا   يُدِلْنَنا اللَّـمّةَ مِنْ لَـمَّاتِهَا
فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها   
فسكن الثانـي من «الزفْرات» وهي اسم وقـيـل إن الـحسرة أشدّ الندامة. فإن قال لنا قائل: فكيف يرون أعمالهم حسرات علـيهم، وإنـما يتندم الـمتندم علـى ترك الـخيرات وفوتها إياه؟ وقد علـمت أن الكفـار لـم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون علـى تركهم الازدياد منه، فـيريهم الله قلـيـلَه، بل كانت أعمالهم كلها معاصي لله، ولا حسرة علـيهم فـي ذلك، وإنـما الـحسرة فـيـما لـم يعملوا من طاعة الله؟ قـيـل: إن أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك مختلفون، فنذكر فـي ذلك ما قالوا، ثم نـخبر بـالذي هو أولـى بتأويـله إن شاء الله.

السابقالتالي
2 3