الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

والصفـا: جمع صفـاة، وهي الصخرة الـملساء، ومنه قول الطرماح:
أبَى لـي ذُو القُوى والطّول ألاَّ   يُؤَبِّسَ حافِرٌ أبْداً صَفاتِي
وقد قالوا إن الصفـا واحد، وأنه يثنى صَفَوان، ويجمع أصفـاء وصُفِـيًّا وصِفِـيًّا واستشهدوا علـى ذلك بقول الراجز:
كأنَّ مَتْنَـيْهِ مِنَ النَّفِـيّ   مَوَاقِعُ الطَّيْرِ علـى الصُفِـيِّ
وقالوا: هو نظير عصا وعُصيّ ورحا ورُحيِّ وأرحاء. وأما الـمروة فإنها الـحصاة الصغيرة يجمع قلـيـلها مروات، وكثـيرها الـمرو مثل تـمرة وتـمرات وتـمر. قال الأعشى ميـمون بن قـيس:
وَتَرَى بـالأرْضِ خُفًّـا زائِلاً   فإذَا ما صَادَفَ الـمَرْوَ رَضَحْ
يعنـي بـالـمرو: الصخر الصغار. ومن ذلك قول أبـي ذؤيب الهذلـي:
حتـى كأنـي للـحَوَادِثِ مَرْوَةٌ   بصفَـا الـمُشَرَّق كلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
ويقال «الـمشقَّر». وإنـما عنى الله تعالـى ذكره بقوله: { إنَّ الصَّفـا والمَرْوَةَ } في هذا الموضع: الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين فـي حرمه دون سائر الصفـا والمرو ولذلك أدخـل فيهما الألف واللام، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين دون سائر الأصفـاء والـمرو. وأما قوله: { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } فإنه يعني من معالم الله التـي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعراً يعبدونه عندها، إما بالدعاء وإما بالذكر وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها ومنه قول الكميت:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلاً فجِيلاً تَرَاهُمُ   شَعَائِرَ قُرْبـانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ
وكان مـجاهد يقول فـي الشعائر بـما: حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { إنَّ الصَّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال: من الـخبر الذي أخبركم عنه. حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. فكأنّ مـجاهداً كان يرى أن الشعائر إنـما هو جمع شعيرة من إشعار الله عبـاده أمر الصفـا والـمروة وما علـيهم فـي الطواف بهما، فمعناه إعلامهم ذلك وذلك تأويـل من الـمفهوم بعيد. وإنـما أعلـم الله تعالـى ذكره بقوله: { إنَّ الصَّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } عبـاده الـمؤمنـين أن السعي بـينهما من مشاعر الـحجّ التـي سنّها لهم، وأمر بها خـلـيـله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم، إذ سأله أن يريه مناسك الـحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الـخبر، فإنه مراد به الأمر لأن الله تعالـى ذكره قد أمر نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم بـاتبـاع ملة إبراهيـم علـيه السلام، فقال له:ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [النحل: 123] وجعل تعالـى ذكره إبراهيـم إماماً لـمن بعده. فإذا كان صحيحاً أن الطواف والسعي بـين الصفـا والـمروة من شعائر الله ومن مناسك الـحج، فمعلوم أن إبراهيـم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنّه لـمن بعده، وقد أمر نبـينا صلى الله عليه وسلم أمته بـاتبـاعه، فعلـيهم العمل بذلك علـى ما بـينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10