الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة فـي قوله تعالـى:يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد: 13] قـيلٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الحديد: 13-14] الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله:وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [آل عمران: 178] فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به، عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلاناً لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عَبِـيد بن الأبرص:
سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْ   ظَلَّتْ بهِ السُّمْرُ النَّوَاهلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـاً بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية. وقال آخرون: قوله:يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } [البقرة: 9] علـى الـجواب، كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله:وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } [آل عمران: 54] والله يستهزىء بهم علـى الـجواب، والله لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وقوله:يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142] وقوله:فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَنَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 79] وما أشبه ذلك، إخبـار من الله أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان، كما قال جل ثناؤه:وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها } [الشورى: 40] ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبـارك وتعالـى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى.

السابقالتالي
2 3 4 5