الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـمدينة والـحجاز والبصرة وبضع الكوفـيـين: «وأما الَّذِينَ سَعِدُوا» بفتـح السين، وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: { وأمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا } بضم السين، بـمعنى: رُزقوا السعادة. والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. فإن قال قائل: وكيف قـيـل: { سِعُدُوا } فـيـما لـم يسمّ فـاعله، ولـم يقل: «أُسعدوا»، وأنت لا تقول فـي الـخبر فـيـما سُمى فـاعله سعده الله، بل إنـما تقول: أسعده الله؟ قـيـل: ذلك نظير قولهم: هو مـجنون مـحبوب فـيـما لـم يسم فـاعله، فإذا سموا فـاعله، قـيـل: أجنّه الله وأحبّه، والعرب تفعل ذلك كثـيراً. وقد بـيَّنا بعض ذلك فـيـما مضى من كتابنا هذا. وتأويـل ذلك: وأما الذين سُعدوا برحمة الله، فهم فـي الـجنة خالدين فـيها ما دامت السموات والأرض، يقول: أبداً، إلا ما شاء ربك. فـاختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: إلا ما شاء ربك من قدْر ما مكثوا فـي النار قبل دخولهم الـجنة، قالوا: وذلك فـيـمن أخرج من النار من الـمؤمنـين فأدخـل الـجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك، فـي قوله:وأمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففـي الـجَنَّةِ خَالدِينَ فِـيها ما دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ، إلاَّ ما شاء رَبُّكَ } قال: هو أيضاً فـي الذين يخرجون من النار فـيدخـلون الـجنة، يقول: خالدين فـي الـجنة ما دامت السماوات والأرض، { إلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ } يقول: إلا ما مكثوا فـي النار حتـى أدخـلوا الـجنة. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما شاء ربك من الزيادة علـى قدر مدّة دوام السماوات والأرض، قالوا: وذلك هو الـخـلود فـيها أبداً. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن أبـي مالك، يعنـي ثعلبة، عن أبـي سنان: { وأمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِـي الـجَنَّةِ خَالدِينَ فِـيها ما دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ إلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ } قال: ومشيئته خـلودهم فـيها، ثم أتبعها فقال: { عطاءً غيرَ مَـجْذُوذٍ }. واختلف أهل العربـية فـي وجه الاستثناء فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم فـي ذلك معنـيان: أحدهما أن تـجعله استثناء يستثنـيه ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزمك علـى ضربه، قال: فكذلك قال: { خَالدِينَ فِـيها ما دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ إلاَّ ما شَاءَ رَبُّكَ } ولا يشاؤه. قال: والقول الآخر: أن العرب إذا استثنت شيئاً كثـيراً مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى إلا ومعنى الواو «سوى» فمن ذلك قوله: { خَالدِينَ فِـيها ما دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ } سوى ما شاء الله من زيادة الـخـلود، فـيجعل «إلا» مكان «سوى» فـيصلـح، وكأنه قال: خالدين فـيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما زادهم من الـخـلود والأبد.

السابقالتالي
2