الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ }

يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ. ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ونزول سخط الله بها بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيِّه واستحقاقه سخط الله بمعصيته. { إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم إيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: { فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها } بمعنى: فما كانت قرية آمنت بمعنى الجحود، فكيف نصب «قوم» وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحداً كان ما بعده مرفوعاً، وأن الصحيح من كلام العرب: ما قام أحد إلا أخوك، وما خرج أحد إلا أبوك؟ قيل: إن ذلك إنما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله وذلك أن الأخ من جنس أحد، وكذلك الأب. ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله كان الفصيح من كلامهم النصب، وذلك لو قلت: ما بقي في الدار أحد إلا الوتد، وما عندنا أحد إلا كلباً أو حماراً لأن الكلب والوتد والحمار من غير جنس أحد، ومنه قول النابغة الذبياني:
............   أعْيَتْ جوَاباً ومَا بالرَّبعْ مِنْ أحَدِ
ثم قال
إلاَّ أوارِيَّ لأَيا ما أُبَيِّنُها   والنّؤْىُ كالحَوْضِ بالمظلومة الجَلَدِ
فنصب «الأواريّ» إذ كان مستثنى من غير جنسه، فكذلك نصب قوم يونس لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم من غير جنسهم وشكلهم وإن كانوا من بني آدم، وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع. ولو كان قوم يونس بعض الأمة الذين استثنوا منهم كان الكلام رفعاً، ولكنهم كما وصفت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: { فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها } يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس. قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعها إيمانْها إلاَّ قَوْمَ يُونسَ لمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحيَاةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إلى حِينٍ } يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت، إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة.

السابقالتالي
2 3