الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

وكذلك قوله { إني أرى ما لا ترون }. وقوله { إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنّهم يسمعونه، فقال قوله هذا، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضرّوه بإذن الله وقوله { إني أخاف الله } بيان لقوله { إني أرى ما لا ترون } أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله. وإن كان ذلك كلّه من قول سراقة فهو إعلان لهم بردّ جواره إيّاهم لئلا يكون خائناً لهم، لأنّ العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم ردّ جواره من أبي بكر، ومنه قوله تعالىوإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآءٍ إن الله لا يحب الخائنين } الأنفال 58 فالمعنى إنّي بريء من جواركم، ولذلك قال له الحارث بن هشام «إلى أين أتخذلنا» فيكون قد اقتصر على تأمينهم من غدر قومه بني كنانة. وتكون الرؤية علمية ومفعولها الثاني محذوفاً اقتصاراً. وأمّا قوله { إني أخاف الله والله شديد العقاب } فعلى احتمال أن يكون الإسناد إلى الشيطان حقيقة فالمراد من خوف الله توقع أن يصيبه الله بضرّ، من نحوِ الرجم بالشهب، وإن كان مجازاً عقلياً وأنّ حقيقته قول سُراقة فلعلّ سراقة قال قولاً في نفسه، لأنّه كان عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدلّ عليه المشركين، فلعلّه تذكّر ذلك ورأى أنّ فيما وعد المشركين من الإعانة ضرباً من خيانة العهد فخاف سوء عاقبة الخيانة. و«التزيين» إظهار الشيء زيْناً، أي حسناٍ، وقد تقدّم عند قوله تعالىكذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام 108، وفي قولهزيّن للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة البقرة 212. والمعنى أنّه أراهم حسناً ما يعملونه من الخروج إلى إنقاذ العير، ثم من إزماع السير إلى بدر. و { تراءت } مفاعلة من الرؤية، أي رأت كلتا الفئتين الأخرى. و { نكص على عقبيه } رجع من حيث جاء. وعن مؤرج السدوسي أنّ نكص رجع بلغة سُليم، ومصدره النكوص وهو من باب رجع. وقوله { على عقبيه } مؤكّد لمعنى نكص إذ النكوص لا يكون إلاّ على العقبين، لأنّه الرجوع إلى الوراء كقولهم رجع القهقرى، ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمنين 66فكنتم على أعقابكم تنكصون } و { على } مفيدة للتمكّن من السير بالعقبين. والعقبان تثنية العقب، وهو مؤخّر الرجل، وقد تقدّم في قولهونردّ على أعقابنا } في سورة الأنعام 71. والمقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر لأنّ عقب الرجل أخسّ القوائم لملاقاته الغبار والأوساخ.

PreviousNext
1