الثالثة: قوله تعالى: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } الشفاعة مأخوذة من الشَّفع وهما الاثنان تقول: كان وَتْراً فشفَعتُه شَفْعاً والشُّفْعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع: صاحب الشُّفْعة وصاحب الشفاعة. وناقة شافع: إذا ٱجتمع لها حَمْل وولد يتبعها تقول منه: شَفعتِ الناقة شَفْعاً. وناقة شَفُوع وهي التي تجمع بين مَحْلَبين في حَلْبة واحدة. وٱستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه. وتشفّعت إليه في فلان فَشفّعني فيه فالشفاعة إذاً ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفَّع، وإيصال منفعته للمشفوع. الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين. وقد تمسّك القاضي عليهم في الردّ بشيئين: أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى. والثاني: الإجماع من السلف على تلقّي هذه الأخبار بالقبول ولم يَبْدُ من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة. فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار مثل قوله:{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]. قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال:{ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123]،{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة } [البقرة: 48]. قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صيغة له فلا تعمّ هذه الآيات كل مَن يعمل سوءاً وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك. وأيضاً فإن الله تعالى أثبت شفاعةً لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين:{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48] وقال:{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] وقال:{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23]. فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى:{ وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 48] النفسُ الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول: إنهم مخلَّدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها، وبدليل قوله:{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48]، وقوله:{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 12]. فإن قالوا: فقد قال تعالى:{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] والفاسق غير مُرْتَضًى. قلنا: لم يقل لمن لا يرضى، وإنما قال: { لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } ومن ٱرتضاه الله للشفاعة هم الموحّدون بدليل قوله:{ لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 87]. " وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عهد الله مع خلقه؟ قال: «أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئاً» "