الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }

وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال:إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [البقرة: 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم. فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيًّا عن الكتمان ومأموراً بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجباً للعلم والله تعالى أعلم. الرابعة: لما قال: { مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } دلّ على أن ما كان من غير ذلك جائز كَتْمه، لاسيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفِظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وِعاءَيْن فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البُلْعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد اللَّه: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثّه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلّق بالبينات والهدى والله تعالى أعلم. الخامسة: قوله تعالى: { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } الكتابة في «بيناه» ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس فالمراد جميع الكتب المنزلة. السادسة: قوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } أي يتبرّأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي كما قال للّعين:وإِنْ عَلَيْكَ لَعْنَتي } [ص: 78]. وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد وقد تقدم. السابعة: قوله تعالى: { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } قال قتادة والربيع: المراد بـ «اللاعنون» الملائكة والمؤمنون. قال ٱبن عطية: وهذا واضح جارٍ على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدْب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال: «اللاعنون» الملائكة والمؤمنون فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذَيْنِك شيئاً. قلت: قد جاء بذلك خبر رواه بن عازب رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } قال. «دواب الأرض» " أخرجه ٱبن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المِنْهال عن زاذان عن البراء إسناد حسن. فإن قيل: كيفَ جَمعَ مَن لا يعقل جَمع مَن يعقل؟. قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل كما قالرَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] ولم يقل ساجدات، وقد قال:لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [فصلت: 24]، وقال:وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } [الأعراف: 198]، ومثله كثير، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وٱبن عباس: «اللاعنون» كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والإنس وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " الكافر إذا ضُرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثَّقَلَين ولعنه كل سامع " وقال ٱبن مسعود والسُّدي: هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلاً لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلاً فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى فهو قوله: { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } فمن مات منهم ٱرتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.

PreviousNext
1