الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } * { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } * { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } * { وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } * { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }

{ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } أي لأؤدّيهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. { مَا دُمْتُ حَيّاً } ما في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. قوله تعالى: { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } قال ابن عباس: لما قال «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي» ولم يقل بوالديّ علم أنه شيء من جهة الله تعالى. { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي متعظماً متكبراً يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقّاً قطّ. { شَقِيّاً } أي خائباً من الخير. ابن عباس: عاقاً. وقيل: عاصياً لربه. وقيل: لم يجعلني تاركاً لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره. الثالثة: قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان، فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم يُنقَل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولادة لكان مِثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضاً على أنه تكلم في المهد خلافاً لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفِرق على أنها لم تُحَدّ. وإنما صحّ براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجباً على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه، ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جَنّه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم. الرابعة: الإشارة بمنزلة الكلام، وتُفهِم ما يُفهِم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: «فأشارت إليه» وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: «كيف نكلم» وقد مضى هذا في «آل عمران» مستوفى. الخامسة: قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفاً ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس.

PreviousNext
1 3