الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

ثم قال تعالى: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المراد بالكثير علماء اليهود، يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلواً في الانكار، كما يقال: ما زادتك موعظتي إلا شراً. وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر. المسألة الثانية: قال أصحابنا: دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفراً وضلالاً، فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات، فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد، ونظيره قولهفَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125]. فإن قالوا: علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها. قلنا: فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد الكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلاً، وذلك تكذيب لنص القرآن. ثم قال تعالى: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ }. واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدينا، لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه، فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً، وفي قوله { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء } قولان: الأول: المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قولهلاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ } [المائدة: 51] وهو قول الحسن ومجاهد. الثاني: أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى: كالملكانية والنسطورية واليعقوبية. فإن قيل: فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين، فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى؟ قلنا: هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى. ثم قال تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ }. وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى:

PreviousNext
1 2 3 4 6