قوله تعالى: { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } أصله: عَنْ مَا، على أنه حرف جر دخل على " ما " الاستفهامية. والمراد: تفخيم القصة بهذا الاستفهام، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون. وأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف " ما " ، كقولهم: فِيمَ وبِمَ. قرأ عكرمة وعيسى بن عمر: " عَمَّا يتساءلون " بإثبات الألف، وأنشدوا لحسان:
على ما قَامَ يَشْتمني لَئِيمٌ
كخنزيرٍ تمرَّغ في رَمَادِ
وقد سبق ذلك فيما مضى. قال المفسرون: لما بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جعل كفار قريش بمكة يتساءلون بينهم: ما الذي أتى به محمد؟ ويختصمون فيه، فنزلت هذه الآية. ثم ذكر تساءلهم عَمَّ هو فقال: { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } أي: الخبر العظيم الشأن. وهو القرآن، في قول مجاهد ومقاتل. والبعث، في قول قتادة. وقيل: هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم. { ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } إن قلنا: هو القرآن، فاختلافهم فيه ظاهر، فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: كهانة، ومنهم من قال: أساطير الأولين. وإن قلنا: هو البعث، فاختلافهم فيه تصديق بعضهم به، وتكذيب بعض حين أُخبروا به. وقيل: تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين. وإن قلنا: هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلافهم فيه ظاهر. قوله تعالى: { كَلاَّ } ردعٌ للمتسائلين على وجه الاستهزاء والتكذيب. ثم توعدهم بقوله: { سَيَعْلَمُونَ } والمعنى: سوف يعلمون عاقبة استهزائهم وتكذيبهم، أو سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه [ويضحكون] منه حق لا محالة. ثم كرّر ذلك توكيداً فقال: { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }. وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري: " ستعلمون " بالتاء فيهما، [من طريق التغلبي] عن ابن ذكوان. ثم دلهم على كمال قدرته على إيجاد ما أراد من البعث وغيره بقوله: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } أي: فراشاً، { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } للأرض؛ لئلا تميد بهم، { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } ذكراناً وإناثاً. { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } قال ابن قتيبة: راحة لأبدانكم. وقد فسرناه في الفرقان. { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } ساتراً بظلمته، كما يستر الثوب لابسه. { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } أي: وقت معاشٍ تتقلبون فيه لحوائجكم ومكاسبكم. { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يريد: السماوات السبع. ويعني بشدتها: إتقانها وإحكامها، وأن مرور الدهور لا يؤثر فيها كما يؤثر في الأبنية المتعارفة. { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } أي: وقّاداً، يجمع النور والحرارة. يعني: الشمس. { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } وهي السماوات، في قول أبي بن كعب، والحسن، وسعيد بن جبير. والرياح، في قول ابن عباس وعكرمة. قال زيد بن أسلم: هي الجنوب. قال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير. و " مِنْ " بمعنى الباء، تقديره: بالمعصرات، سُمّيت بذلك؛ لأن الرياح تستدرّ المطر. والسحاب، في قول أبي العالية، والضحاك، والربيع، وابن عباس في رواية الوالبي، قالوا: هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر، كالمرأة المعصر، وهي التي دنا حيضها.