الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ: قوله تعالى: { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } العامل في «يَوْم» «لَتُنَبَّؤُنَّ» أو «خَبِيرٌ» لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغَبْنُ: النقص. يقال: غَبَنَه غَبْناً إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة «يَجْمَعُكُمْ» بالياء لقوله تعالى: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فأخبر. ولِذِكر اسم الله أوّلا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجَحْدَرِيّ ويعقوب وسلام «نجمعكم» بالنون اعتباراً بقوله: { وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا }. ويوم الجمع: يوم يجمع الله الأوّلين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض. وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبيّ وأمّته. وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } أي يوم القيامة. وقال:
وما أرتجي بالعيش في دار فرقة   ألاَ إنما الراحات يوم التغابن
وسمّى يوم القيامة يوم التغابُن لأنه غَبَن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيّد بالرديء، والنعيم بالعذاب. يقال: غَبَنت فلاناً إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغَلَبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار على ما يأتي بيانه. ويقال: غَبَنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئاً فهو نقصان أيضاً. والْمَغَابِن: ما انثنى من الخِلقَ نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة. ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته. الثانية ـ: فإن قيل: فأيُّ معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغَبْن فيها. قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع كما قال تعالى:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة:16]. ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غُبِنوا وذلك أن أهل الجنة اشتَروُا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً. وقد فرّق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخِذلان على العبد ـ كما بيناه في هذه السورة وغيرها ـ فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرّقة في هذا الكتاب.

السابقالتالي
2