الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } فيه خمس مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا } أي ٱتخِذا. { لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } يقال: بوّأت زيداً مكاناً، وبوّأت لزيد مكاناً. والمبوَّأ المنزل الملزوم ومنه بوّأه الله منزلاً، أي ألزمه إياه وأسكنه ومنه الحديث: " من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار " قال الراجز:
نحن بنو عدنان ليس شك   تبوّأ المجد بنا والملك
ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية في قول مجاهد. وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أُسوان، والإسكندرية من أرض مصر. الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلّون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أمر فرعونُ بمساجد بني إسرائيل فخرّبت كلها ومنعوا من الصلاة فأوحى الله إلى موسى وهارون أن ٱتخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة. هذا قول إبراهيم وٱبن زيد والرّبيع وأبي مالك وٱبن عباس وغيرهم. وروي عن ٱبن عباس وسعيد بن جُبَير أن المعنى: وٱجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً. والقول الأوّل أصح أي ٱجعلوا مساجدكم إلى القِبلة قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله ابن بحر. وقيل الكعبة. عن ٱبن عباس قال: وكانت الكعبة قِبلة موسى ومن معه، وهذا يدلّ على أن القبلة في الصلاة كانت شرعاً لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة. وقيل: المراد صلّوا في بيوتكم سرّاً لتأمنوا وذلك حين أخافهم فرعون فأمِروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله:قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ } [الأعراف: 128] الآية. وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البِيَع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم. قال ٱبن العربي: والأوّل أظهر القولين لأن الثاني دعوى. قلت: قوله: «دعوى» صحيح فإن في الصحيح قوله عليه السلام: " جعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً " وهذا مما خُصّ به دون الأنبياء فنحن بحمد الله نصلِّي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها. وقبل الصلوات المفروضات وبعدها إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلَص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى. روى مسلم عن " عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوّعه قالت: «كان يصلّي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلّي بالناس، ثم يدخل فيصلّي ركعتين، وكان يصلّي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلِّي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين...» "

السابقالتالي
2