الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

معنى { غَآئِبَةٍ.. } [النمل: 75] يعني: الشيء الغائب، ولحقتْ به التاء الدالة على المبالغة، كما نقول في المبالغة: راوٍ وراوية، ونسَّاب ونسَّابه، وعالم وعلامة، كذلك غائب وغائبة، مبالغة في خفائها. ومِنْ هنا يرى البعض أنها زائدة، لكن كلمة زائدة لا تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته، ونُنزِّه كلام الله عن الحشو واللغو الذي لا معنى له، والبعض تأدب مع القرآن فقال من هنا صلة، لكن صلة لأي شيء؟ إذن: لا بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول: إذا أردتَ أنْ تنفي وجود مال معك تقول: ما عندي مال، وهذا يعني أنه لا مالَ معك يُعتَدّ به، ولا يمنع أن يكون معك مثلاً عدة قروش لا يقال لها مال، فإن أردتَ نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول: ما عندي من مال، يعني بداية ممَّا يُقال له مال مهما صَغُر، فمِنْ هنا إذن ليست زائدةً ولا صلةً، إنما هي للغاية وتأصيل العموم في النفي. فالمعنى { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل: 75] أن الله تعالى يحيط علمه أزلاً بكل شيء، مهما كان صغيراً لا يُعتدُّ به، واقرأ قوله تعالى:وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59]. كما أن قدرته تعالى لا تقف عند حد العلم إنما ويسجله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل: 75] أي في أُمِّ الكتاب الذي سجَّل الله فيه كل أحداث الكون، فإذا ما جاءتْ الأحداث نراها مُوافِقة لما سجّله الله عنها أَزَلاً، فمثلاً لما ذكر الحق - تبارك وتعالى - وسائل النقلِ والمواصلات في زمن نزول القرآن قال:وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8]. فلولا تذييل الآية بقوله تعالى:وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] لكان فيها مأخذ على القرآن، وإلاَّ فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلات؟ إذن: نستطيع الآن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحتوَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8]. وسبق أن قلنا: إن من عظمة الحق - سبحانه وتعالى - ألاَّ يُعلم بشيء لا اختيار للعبد فيه، إنما بما له فيه اختيار ويفضحه باختياره، كما حدث في مسألة تحويل القبلة:سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا.. } [البقرة: 142]. فيعلنها الله تعالى صراحة، ويُسمِّيهم سفهاء لأنهم يعادون الله ويعادون رسول الله، وبعد هذه الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلاً ما حكاه القرآن عنهم. ولم نَرَ منهم عاقلاً يتأمل هذه الآية، ويقول: ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله، وفي هذه الحالة يجوز لهم أنْ يتهموا القرآن وينالوا من صِدْقه ومن مكانة رسول الله، لكن لم يحدث وقالوا فعلاً بعد نزول الآية:

السابقالتالي
2