يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، - تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال:{ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30]، ولم يقل إني أنا الله ولا ابن الله، بل قال:{ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [مريم: 30]، وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: { وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ } أي فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ } أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى:{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48، 116]. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس: " إن الجنة لا يدخلها إلاّ نفس مسلمة " وفي لفظ " مؤمنة " ، ولهذا قال تعالى: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه. وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ، الصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك، فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. قال ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة. وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، وهي كقوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [المائدة: 116] الآية، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم. قال الله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداًَ: { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } أي من هذا الافتراء والكذب { لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال: { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }؟ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.